فك التشفير البيولوجي مقاربة صحية جديدة، مكملة لعمل الطبيب والطبيب النفسي، تهدف إلى مرافقة المريض في البحث عن تفسير أعراضه، والتي من شأنها توفير معلومات أكثر عن تاريخه الصحي. لنرى ما قد تكشفه النزاعات العائلية…
لنأخذ على سبيل المثال حالة امرأة كانت ترغب في معرفة أسباب وتفسير نوبات الهلع التي صارت تصيبها منذ عدة أشهر. السبب واضح: نزاع عائلي مع أمها وأختها لسبب تافه. أما معنى هذه النوبات، فيتطلب تدقيقا أكثر.
هل يمكن اعتبار العائلة مصدرا دائما للقلق؟
إن العائلة موضوع حساس للغاية بالنسبة للإنسان، والنزاعات الأسرية قد تأخذ أبعادا ضخمة قد تؤدي أحيانا إلى مأساة. لكن، ودون الوصول إلى هذه الأخيرة، نلاحظ إلى أي حد قد ينشغل الفرد بأمور عائلته ويكرس لها طاقة كبيرة، الأمر الذي يصيبه بالمرض (بالمعني الحرفي كما المجازي) وهو يحاول حل المشاكل العائلية التي غالبا ما تكون بسيطة أو لا تخصه بشكل مباشر. لابد إذا من فهم سبب كل هذا.
يجب أن نعرف أولا أن مفهوم العائلة لا يخص الجنس البشري فقط، بل يمتد إلى جميع الحيوانات الاجتماعية التي تعيش مشاكل مشابهة لنا: فهم أيضا ينشغلون بالأمور المرتبطة بالزمرة والعشيرة، إلخ؛ ما يعني أن المشكل أقدم من ظهور الإنسانية.
رهان أساسي…
يجب أن نعلم أن العائلة مسألة حياة أو موت. فسواء تعلق الأمر بالحيوانات البرية، بالأشخاص في السافانا الإفريقية أو بسكان الكهوف، تصير فرص بقائنا على قيد الحياة في جميع الحالات قليلة عندما:
- – يكون الشخص على نزاع مع مجموعته، ما قد يؤدي إلى رفضه من طرفها. ونعلم أن كل فرد في الطبيعة رفض من قبل جماعته أو عشيرته هو شخص محكوم عليه بالموت، وليست لديه أي فرصة للبقاء على قيد الحياة أكثر من أيام معدودة.
- – إذا كانت مجموعتنا “مريضة”، في هذه الحالة نكون في خطر كبير. ففي الطبيعة، يرتبط بقاء الفرد بمدى كون المجموعة التي ينتمي إليها “في صحة جيدة”.
… وأحد معتقدات أجدادنا القديمة
ستفكرون في أننا تجاوزنا كل هذا. لكن في الواقع، إن بقائنا على قيد الحياة في عالمنا المعاصر ليس أمرا مرتبطا بمجموعتنا. فمهما كان عمرنا، نستطيع البقاء على قيد الحياة ولو أننا لا نمتلك عائلة، ولو أن عائلتنا ترفضنا أو أنها تعاني الكثير من المشاكل. ابتكرنا دور الأيتام للأطفال المتخلى عنهم، المساعدة الاجتماعية للأشخاص في وضعية صعبة، التأمين الصحي للمرضى، والتقاعد لكبار السن؛ إلخ.
لكن المشكل يكمن في كون دماغنا الذي ورث مجموعة من الاعتقادات عن أجدادنا يجهل كل هذا. إذ يعتقد أننا مازلنا نعيش الحياة البرية الصعبة، حيث يصير الفرد عرضة لخطر الموت بمجرد توقف الحماية التي توفرها له مجموعته. فهذا الدماغ القديم لا يعرف أننا منذ ذلك الحين ابتكرنا كل هذه الهياكل لمساعدتنا وحمايتنا.
والحدير بالذكر أن المشكل ما يزال حاضرا بقوة في جميع أرجاء العالم، حيث يصير الفرد في مواجهة الموت بمجرد أن تتوقف مجموعته عن حمايته. كما أن أغلبية الأشخاص المتشردين هم في هذه الوضعية لنفس السبب، إذ أنهم فقدوا عائلتهم أو لأن هذه الأخيرة رفضت وجودهم فيها.
التضامن الأسري
في الطبيعة، يوفر العيش وسط الجماعة مزايا عديدة، إذ يرفع فرص البقاء على قيد الحياة لكل فرد. فبفضل العدد المرتفع للأفراد، تزداد القدرة على استشعار الخطر والانتباه إليه في الوقت المناسب، على الدفاع عن الأراضي المشتركة، تخويف الحيوانات المفترسة، تنظيم عملية الصيد؛ إلخ.
وبالإضافة إلى هذه المزايا التي يوفرها العيش وسط المجموعة، فإن الحياة مع العائلة توفر إيجابيات أكثر. لإدراك أهمية الأسرة – وبالتالي فهم ما يقلق الكثير من الأفراد – يجب أن نفهم إلى أي حد كانت الأسرة قبلا ضرورية للبقاء على قيد الحياة. لماذا؟ لأن العائلة ببساطة مرادف للتضامن. ففي بدايات الإنسانية، كان حلفاؤنا الوحيدون هم أفراد عائلتنا، وهم فقط من سيبذلون الجهد لتقديم المساعدة عند الحاجة، إذا كنا مرضى أو جرحى مثلا. في وسط العائلة فقط نشارك ما لدينا، وندعم فردا في وضعية هشة.
ألا يوجد التضامن خارج العائلة؟ بلى طبعا، خاصة في عالمنا المعاصر. لكن لنشارك يجب أن نتوفر على أكثر من اللازم، وهو أمر نادر في الطبيعة. في ظل هذه الأوضاع الصعبة، لابد أن تحتفظ كل عائلة بقوتها وبمواردها القليلة لنفسها ولأفرادها.
مهما كان عمرنا، فإن بقائنا على قيد الحياة رهين بأسرتنا، وهو أمر واضح حينما نكون في مرحلة الطفولة المبكرة. لكن نفس الشيء ينطبق علينا عندما نكبر، بما أننا في الحالتين عاجزون عن تلبية حاجاتنا وحماية أنفسنا في حالة الخطر.
التخلص من الخوف
يظل الأمر على حاله رغم الكبر في السن، حتى ولو كنا في صحة جيدة وتوفرنا على الإمكانيات اللازمة. ففي جميع الحالات، يشعر دماغنا القديم بالهلع بمجرد حدوث مشكل عائلي، إذ يعتبر الأمر وضعا حرجا.
لكن، هل يمكن لفرد انفصل عن مجموعته أن يلتحق بأخرى؟ لا! للأسف ليس الأمر بهذه البساطة، ففي الطبيعة، عندما يحاول الفرد التقرب من مجموعة لا ينتمي إليها يتم رفضه، لأنه يعتبر منافسا و/أو عدوا. لذا، فمن الطبيعي القلق بخصوص أمور العائلة، رغم كونها مسألة مرتبطة بدماغنا القديم، إذ من الأفضل معرفة ذلك لتفادي الدخول في صراعات لا نهاية لها في حال حدوث مشاكل عائلية. هذا ما شرح الطبيب النفسي لتلك المرأة لتستطيع الخروج من حالة الخوف التي تعيشها وترتاح داخليا.