اللعب معا، الحديث، الجري للإمساك ببعض، الخلافات الصغيرة، الضحك معا… ما هو العمر الذي يبدأ فيه اهتمام الطفل بالآخرين؟ لماذا تكون علاقات الصداقة بين الأطفال قوية للغاية؟ كيف ينمو ذكاؤهم الاجتماعي؟ لنعرف أكثر بخصوص صداقات الأطفال.
الأصدقاء والصديقات، علاقات اجتماعية أساسية للطفل
تبدأ صداقات الأطفال في سن 3، لكن التربة التي ستنمو فيها هذه العلاقات تبدأ قبل ذلك. يبدأ كل شيء منذ اللحظات الأولى في حياة الرضيع، وذلك بناء على كيفية تعامل الأشخاص البالغين الذين يعتنون به (الآباء، الأجداد، الحضانة…). خلال عمليات التواصل الشفهي، العناية، اللعب، النظرات؛ يخزن الطفل في ذاكرته على المستوى البدني والعاطفي تجارب تواصلية تحدد طبيعة علاقاته بالآخرين. إذا كانت هذه العلاقات رائعة وتوفر له الشعور بالرضا، فإنه سيبحث عن عيش تجارب مماثلة. أما إذا كانت سلبية وتسبب له الانزعاج والتوتر والقلق، فإنه لن يكون اجتماعيا وسيتفادى التواصل مع الناس. لهذا تعتبر بعض الممارسات مثل الكلام، التهويدات والعناق في غاية الأهمية لصغيركم. عند بلوغه الشهر 8 أو 10، يعي الصغير بأنه كيان مستقل عن الآخرين، يفهم أن أمه قد تغيب عنه؛ ما يسميه أطباء النفس “قلق الشهر 8”. لتجاوز هذا القلق من الانفصال، يتخيل في رأسه ذلك الشخص الغائب الذي يحبه، ويشكل له صورة ذهنية. بعد السنة الأولى، إذا وضعتم الرضيع مع طفل آخر سيهتم به، سيحاول إمساكه بيديه، أو عضه لإظهار إعجابه وعدم رغبته في أن يرحل.
عمليات التواصل الأولى “العنيفة”
يرافق فضول الطفل بعض التصرفات التي قد تحمل في طياتها نوعا من العنف، وذلك لكونه غير قادر على التحكم في الآخر أو على التواصل معه بشكل مختلف. الدفع، الضرب، جر الشعر… كل هذه الممارسات “العنيفة” ليست إلا محاولات للتواصل وإثارة ردود فعل الآخر.
انطلاقا من الشهر 18؛ يصير الطفل مستقلا على المستوى النفسي والحركي، قادرا على عيش الانفصال عن الآخر مع الحفاظ على الشعور بالأمان. تبدأ حينها مرحلة حب الآخر. عندما يلتقي الطفل بطفل آخر؛ يثير هذا الكائن الذي يشبهه فضوله، فيراقبه، يشاهده وهو يلعب ويقلده. عندما يلعبان معا، يساهم كل منهما في إغناء وتطوير اللعبة، إذ تتناسل الأفكار الجديدة بمجرد مراقبة الآخر. إنها بداية الصداقة بين الأطفال. يلعب البالغون هنا دورا مهما؛ إذ عليهم أن يفسروا للطفل أن الآخر يريد أن يلعب معه، لكنه غير قادر على إخباره بذلك. قبل أن يبلغ الطفل عامين، قد يأخذ لعبة صديقه لإظهار اهتمامه بالآخر. طالما ليس هناك أي خطر، يفضل أن يكتفي الشخص البالغ بالملاحظة ويترك الطفلين يصلان إلى أقصى حد. هكذا سيتعلمان فرض النفس، وضع الحدود والتفاوض.
تولد هذه العلاقات الأولى بشكل عفوي، تنمو بسرعة لكنها لا تدوم طويلا. ففي سن الثانية، تصير لحظات الاهتمام بالآخر عابرة. بعد جلسة من الضحك معا، ينفصل الطفلان عن بعضهما دون سابق إنذار ويذهب كل ليلعب وحيدا داخل فقاعته الخاصة. يحتاج الطفل إلى الشعور بالأمان حتى تتطور علاقاته الاجتماعية فتصير سليمة، هادئة ومسالمة؛ دون اعتبار الآخر مصدرا للتهديد. والأطفال الذين يرفضون انفصال الآخر عنهم، يلجؤون إلى التعامل بعدوانية للحفاظ عليه؛ بحيث قد يفضلون إيذاءه على فقدانه. وهو ما يؤدي في سن البلوغ إلى سلوك التسلط.
في سن الثانية، يكتشف الأطفال متعة “اللعب معا”. يسهل استعمالهم للغة طريقة تواصلهم مع الآخر؛ عوض دفعه أو جره من ثيابه، يقول الطفل “تعالى!”. فكلما تمكن الطفل من اللغة أكثر، كلما تطور التفاعل ليفسح المجال أمام الابتكار والخيال.
فترة الصداقات الحقيقية
عندما يصل الطفل الذي يبلغ 18 شهرا إلى الحضانة، يتجه مباشرة نحو شخص بالغ ليوجهه… لكن عندما يكون عمره بين الثانية والثالثة، فإنه يتجه نحو أصدقائه. غير أن وجود الشخص البالغ يبقى مهما لشعور الصغير بالأمان. كلما كبر الطفل، كلما زاد وعيه بنفسه وبالآخر، فيفرق بين الأشخاص وتنمو علاقاته مع باقي الأطفال لتصير روابط صداقة قوية. الصداقة الحقيقية يعيشها الأطفال في سن 3.
تعتبر فترة دخول الطفل إلى الحضانة أو الروض أساسية؛ إذ يتعلم الصغار الكثير من الألعاب والأغاني، وخصوصا كيف يصيرون اجتماعيين. يرغب كل طفل في أن يكون المفضل لدى مدرسته، وبما أن ذلك مستحيل؛ فإنه يتجه نحو زملائه ويختار اثنين أو ثلاثة ممن يحب اللعب معهم. تظهر الصداقات الأولى، وكذلك مواقف الرفض من قبيل “لا أحبه، لا أريد اللعب معه!”. يختار الأصدقاء أحيانا بعضهم بناء على الأمور المشتركة التي يتشابهون فيها.
وأحيانا أخرى، يحدث العكس تماما. فيصير الخجول صديقا للمنفتح، الحالم للجريء، الثرثارة للحكيمة… تساعد هذه الصداقات المفاجئة على فتح الآفاق. على الآباء أن يقبلوا خيارات أبنائهم في الموضوع، مع تفادي فرض صديق أو صديقة ما نظرا لأسلوبه أو مظهره! يعيش الطفل حريته في الروض بعيدا عن معايير العائلة، دون أحكام مسبقة؛ وهو ما يعتبر مهما جدا لنموه وتطوره.
ما بين سن 4 و5، تصير علاقات الصداقة غنية أكثر، تبدأ المحادثات الحقيقية بين الأصدقاء. يتبادلون الأسرار، يشاركون آراءهم حول الحب، الوالدين، الموت… وتصير الألعاب منظمة أكثر مع المزيد من الإبداع. أما بين 5 و6، فتمكن ألعاب التقليد الفتيات والفتيان من تجربة العلاقات الاجتماعية التي سيشاركون فيها لاحقا. يلعبون دور الأستاذ/ة، الأب والأم، الطبيب، الأمير والأميرة، الأبطال الخارقين، العاملين… يصير الأصدقاء ضروريين للفهم والشعور بالأمان. يساعدون على التحلي بالجرأة والشجاعة، على الخروج من شرنقة الوالدين، على التحرر واكتشاف الآخر. في ذلك الفضاء المتواجد بين البيت والخارج، بين معايير الأسرة والأصدقاء؛ يبني كل طفل أفكاره الخاصة، عالمه الخاص وهويته الخاصة. في هذه السن، يفضل الأطفال العلاقات الثنائية أكثر من المجموعات الكبيرة؛ إذ يصعب عليهم ربط العلاقات مع الكثير من الأشخاص. ويرافقون غالبا أطفالا من نفس الجنس، لأنهم يعززون هويتهم الجنسية. يلعب الصديق دور النسخة الأخرى للطفل، يصير مصدر ثقته الذي لا يحكي أسراره والذي يقدم له يد العون. يعتبر هذا مطمئنا جدا بالنسبة للصغير الذي يشعر بالضعف في عالم الكبار.
تطوير الذكاء الاجتماعي
كلما كبر طفلكم، كلما رغب أكثر في اللعب مع الآخرين وفي إنشاء الصداقات. معرفة كيفية بناء العلاقات مع الآخرين، صغارا أو كبارا، هو ما يسمى في علم النفس بالذكاء الاجتماعي أو الذكاء العلائقي. يعتبر هذا النوع من الذكاء ضروريا للعيش مع الآخرين وللنجاح في الحياة بشكل عام. لذا يمكنكم تشجيع بعض المهارات لدى أطفالكم لتطوير هذا الذكاء لديهم. أولا، قدرة الطفل على تشخيص وفهم مشاعر الآخرين وتمييزها عن مشاعره الخاصة. لتساعدوا طفلكم على تطوير حاصل ذكائه الاجتماعي (QS)، علموه تفكيك وفهم تصرفات الآخرين. ناقشوه باستمرار، شجعوه على الإنصات وعلى وضع الأسئلة المهمة، على التمييز بين أحكام وردود أفعال الآخرين، وعلى قبول كونها مختلفة عن ما يعتقده هو. إذا سخر منه طفل ما، اشرحوا له لماذا يسخر بعض الأفراد من غيرهم، لأنهم يخافون من أن يسخر منهم الآخرون، لأنهم لا يثقون بنفسهم كفاية…
علموه الصبر، حتى لا يكون الشخص الذي يريد كل شيء هنا والآن! فالأطفال الذين يتقنون فن الانتظار ولا يخضعون لاندفاعاتهم، يكونون أكثر ثقة بنفسهم وأكثر نجاحا على المستوى الاجتماعي. إذا حاول طفل آخر أخذ لعبته، اطلبوا منه أن يتبادل معه عوض أن يرفض كليا ويبدأ الخصام بين الصغيرين. فالتبادل أفضل وسيلة للحصول على أصدقاء. ومن جهة أخرى، لا يجب عليكم أن تجبروه على إقراض لعبه، أو على التعامل بلطف لأنكم تعتقدون أن ذلك جيد! لا يزال صغيرا على إظهار التعاطف! فحتى يضع الشخص نفسه مكان الآخر ويتعامل معه بإحسان، عليه أن يشعر أولا بفرديته حتى لا يتخوف من أن يتم استيعابه من طرف الآخر. انتظروا أن تمر فترة “لا” لتطلبوا من الطفل أن يقرض ألعابه، وإلا سيشعر أنه يفقد جزءا منه. الطفل ليس شخصا بالغا صغير الحجم، وليس من الجيد أن تفرضوا عليه سلوكات معينة لا يحترمها في الغالب حتى الكبار! قبل سن 3 و4، يقوم شعور الطفل بالأمان على كونه مميزا في نظر والديه وعلى كونه الشخص الوحيد المهم. فعندما تطلبون منه أن ينسى نفسه لصالح شخص آخر، يعتقد أنكم لا تحبونه وأن الآخر أكثر أهمية في نظر الوالدين أو المعلمين. ويتأثر الطفل أكثر إذا طلبتم منه إعطاء لعبه لطفل أصغر منه سنا. إذ يعتقد حينها أنه من الأفضل أن يكون رضيعا على أن يكون كبيرا، وأن الكبار يفضلون الصغار. لا تطلبوا منه أن يكون كبيرا، دون أن تظهروا له أن الكبر سيوفر له الكثير من المزايا والحقوق التي ستجعله يرغب في أن يصير كذلك. لا يمكن تربية الطفل على المشاركة بالقوة. إذا أجبرتم الصغير على فعل الخير في وقت مبكر، إذا قلتم له إنه ليس لطيفا، أو عاقبتموه؛ سيخضع للأوامر لإرضاء والديه، كنوع من الخضوع. لا يمكن أن ننتظر من طفل لم يبلغ 6 أو 7 أن يتحلى بالغيرية والتعاطف، أي القدرة على وضع النفس مكان الآخر. يتبنى الطفل بشكل مباشر قيم والديه، يعرف التفريق بين الجيد والسيء، وهو فقط من يقرر أن يشارك أشياءه ويكون لطيفا.
ماذا لو لم يكن لديه أصدقاء؟
بعد أول حصة لطفلتكم في القسم، بدأتم بإرهاقها بأسئلة من قبيل: “هل أصبح لديك صيدقات؟ ما هي أسماؤهن؟” يرغب الآباء في أن يكون أطفالهم الأفضل في الروض. لكن بعض الأطفال ليسوا اجتماعيين بنفس الشكل، يكون بعضهم منفتحين كثيرا بينما يتميز البعض الآخر بالانطوائية. عوض الضغط عليهم، حاولوا فهم طفلكم واحترام وتيرة تطوره. من الجيد أن يكون الشخص منفتحا، لكن هناك أيضا الخجولون والحالمون، الذين يتميزون بالتحفظ ويفضلون اللعب لوحدهم أو مع صديق واحد فقط. صديق واحد يكفي! قوموا بدعوة الصديق المفضل لطفلكم للعب معه في نهاية الأسبوع. حفزوا حبه للتواجد في مجموعة من خلال تسجيله في أنشطة موازية للدراسة (الرقص، الرياضة، المسرح؛ إلخ.)، إذ تمكن هذه الأخيرة الأطفال الخجولين من العيش في إطار يختلف عن المدرسة. تختلف القواعد، وتكون المجموعات أصغر… وتعتبر الألعاب الاجتماعية ممتازة كي يتعلم الطفل الخسارة، التواجد وسط الآخرين، ومساعدة فريقه على الفوز! احرصوا على مواساة صغيركم عند فقدان صديق ما، لأن فترة الصداقات الحقيقية هي كذلك فترة الخسارات الكبيرة التي تسبب له الكثير من الحزن. أنصتوا إلى شكاويه، وارفعوا معنوياته. حددوا أوقاتا لتحضير وجبات خفيفة في البيت ودعوة أطفال آخرين، ستساعدونه على كسب المزيد من الأصدقاء…